سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} أي: عدد الشهور، {عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وقوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: في حكم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. قرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وتسعة عشر، وأحد عشر، بسكون الشين، وقرأ العامة بفتحها، {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْض} والمراد منه: الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلة. والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما، {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} من الشهور أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، واحد فرد وثلاثة سرد، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الحساب المستقيم.
{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قيل: قوله: {فيهن} ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة. وقيل: {فيهن} أي: في الأشهر الحرم. قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما. وقال ابن عباس: فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك وهو النسيء.
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} جميعا عامة، {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم. فقال قوم: كان كبيرا ثم نسخ بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} كأنه يقول فيهن وفي غيرهن. وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهري، وسفيان الثوري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: إنه غير منسوخ: قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح: ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت.
قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} قيل: هو مصدر كالسعير والحريق. وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل، وهو من التأخير. ومنه النسيئة في البيع، يقال: أنسأ الله في أجله أي أخر، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري: بتشديد الياء من غير همز، وقد قيل: أصله الهمزة فخفف.
وقيل: هو من النسيان على معنى المنسي أي: المتروك. ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا أي: أخَّروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع، هكذا شهرا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه، وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته.
كما: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الواحد حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان». وقال: «أيّ شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أيّ بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فأيَ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: أحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض مَنْ يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت ألا هل بلغت»؟
قالوا: وكان قد استمر النسيء بهم، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر.
قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع، فوافق حجُّه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة يوم التاسع، وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام.
واختلفوا في أول من نسأ النسيء: فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد: أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال: له نعيم بن ثعلبة، وكان يكون أميرا على الناس بالموسم، فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال: لا مردَّ لما قضيت، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه، فيقول: فإن صفرًا العام حرام، فإذا قال ذلك حلُّوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدُّوا الأزجة، وأغاروا. وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له: القلمس، قال شاعرهم:
وفينا ناسئ الشهر القلمس ***
وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب، وهو يجر قُصْبَه في النار».
فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} يريد زيادة كفر على كفرهم، {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ حمزة والكسائي وحفص: {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح الضاد، كقوله تعالى: {زين لهم سوء أعمالهم}، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد، وهي قراءة الحسن ومجاهد على معنى {يضل} به الذين كفروا الناس، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد، لأنهم هم الضالون لقوله: {يُحِلُّونَه} يعني النسيء {عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا} أي: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، كما حرم الله فيكون موافقة العدد، {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.


قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ} الآية، نزلت في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفاوز هائلة، وعدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فشقّ عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} أي: قال لكم رسول الله صلى الله: {انْفِرُوا} أخرجوا في سبيل الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْض} أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة. {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}.
ثم أوعدهم على ترك الجهاد، فقال تعالى: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في الآخرة. وقيل: هو احتباس المطر عنهم في الدنيا. وسأل نجدة بن نفيع ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا عليه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} خيرًا منكم وأطوع. قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. وقيل: هم أهل اليمن، {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} بترككم النفير. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.


قوله تعالى: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَد والعُدَد؟ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مكة حين مكروا به وأرادوا تبيينه وهموا بقتله، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وهو نقب في جبل ثور بمكة، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} قال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان، أنبأنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن عبد الله الدورقي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم عن كثير النَّوَّاء عن جُمَيْع بن عُمَيْر قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض».
قال الحسين بن الفضل: مَنْ قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن. وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا، لا يكون كافرًا.
وقوله عز وجل: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} لم يكن حزن أبي بكر جُبْنًا منه، وإنما كان إشفاقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قُتِلْتَ هلكت الأمة وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
أخبرنا أبو المظفر التميمي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا حيان بن هلال، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا ثابت البناني، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدَّثهم، قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون.. قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل، بين لابتين وهما الحرتان». فهاجر مَنْ هاجر قِبَل المدينة ورجع عامة مَنْ كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلِكَ فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين- كانتا عنده- ورق السَّمُر، وهو الخبْط، أربعة أشهر.
قال ابن شهاب. قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نَحْرِ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله: «بالثمن» قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفْرَةً في جِرَابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة، كبائت فيها، فلا يسمع أمرًا يُُكَادَانِ به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَةَ، مولى أبي بكر، مِنْحَةً من غنمٍ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْلٍ، وهو لبن منحتهما وَرَضِيفُهُمَا حتى يَنْعِقَ بهما عامر بن فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدِّيل، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خِرِّيتًا، والخِرِّيتُ: الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فَأَمِنَاهُ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فُهَيْرَةَ والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل.
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك الْمُدْلِجِيّ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعْشُم: أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أَسْوِدَةً بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمتُ فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزُجِّه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فُهَيْرَةَ فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسَّسَ المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر، لسهيل وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فَسَاوَمَهُمَا بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل معهم اللّبِنَ في بنيانه ويقول وهو ينقل اللّبن: هذا الحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَرْ هذا أبَرّ ربنا وأَطْهَرْ ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره *** فارحم الأنصار والمهاجره
فتمثل ببيت رجلٍ من المسلمين لم يسمَّ لي.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.
قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسجت بيتا، وفي القصة: أنبت يمامة على فم الغار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أعمِ أبصارهم عنّا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون: لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
قوله عز وجل: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قيل: على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل، {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. وقيل: ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا. وقال مجاهد والكلبي: أعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} وكلمتهم الشرك، وهي السفلى إلى يوم القيامة، {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} إلى يوم القيامة. قال ابن عباس: هي قول لا إله إلا الله. وقيل كلمة الذين كفروا: ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره. وقرأ يعقوب: {وَكَلِمَةَ اللَّهِ} بنصب التاء على العطف {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11